صداح سامي
عدد المساهمات : 30 تاريخ التسجيل : 09/07/2012
| موضوع: مناقب السيد علي الميرغني السبت أكتوبر 13, 2012 11:27 am | |
| مناقب صاحب السيادة مولانا السيد علي الميرغني رضي الله عنه
وبه الإعانة بدءاً وختماً وصلى الله علي سيدنا محمد ذاتاً ووصفاً واسما
الحمد لله رب العالمين إيماناً به وإنتظاراً لرحمته وابتغاء لمرضاته لا إله إلا هو الحي القيوم القائل في محكم كتابه الكريم : ( إنما يريد الله أن يذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) ، والقائل سبحانه وتعالى : ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ) ، والصلاة والسلام علي رسوله المجتبى ونبيه المرتضى سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين هادي البشر بما أنزل إليه من محكم التنزيل ومرشد الأنام بما روى عنه من الحديث الشريف في ما نقل عن الثقات الروات : "إن رحمي موصولة في الدنيا والآخرة" ، ولا جدال فإن حب آل بيت النبوة الكريم قد تغلغل في قلوب المسلمين وجرى في دماءهم وأصبح منهم بمنزلة السجايا والغرائز ذلك إن حبهم من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحب رسول الله من حب الله وفي صحيح البخاري لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وفي حديث آخر لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب من أمه وأبيه والناس أجمعين وقد فاضت الآثار وطفحت كتب السيرة والتاريخ بما كان من توقير الصحابة رضوان الله عليهم وإعظامهم لآل بيت الرسول الكريم يدفعهم لذلك قوله تعالى : ( قل لا أسألكم عليه إلا المودة في القربى .
)وقد روى الإمام الزمخشري عند تفسيره للآية المتقدمة ، إنها لما نزلت قيل يا رسول الله : " من قرابتك " ، قال : " علي وفاطمة أبناءهما " ، وروي أيضا عن علي رضي الله عنه قال : " شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حسد الناس لي " ، فقال : " أما ترضى أن تكون رابع أربعة أول من يدخل الجنة أنا وأنت وفاطمة والحسن والحسين وأزواجنا عن أيامننا وشمائلنا وذرارينا خلف أزواجنا " ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم : "حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي " ، ثم روى الزمخشري حديثاً طويلاً فيما يترتب علي حب آل الرسول صلوات الله وسلامه عليه من الغير وفيما يترتب علي بغضهم من المؤاخذة والشر ، ومقصود الآية التي رويت الأحاديث في تفسيرها إن الله سبحانه وتعالى لا يطالب في مقابلة ما أنعم به عليهم من نعمة القرآن إلا المودة لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وروي الأمام مسلم في صحيحه قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال فيما قال : أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم الثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور وحث علي كتاب الله ورغب فيه ثم قال : " أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في آل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي " . وهذا قليل من كثير مما جعل المسلمين علي إختلاف ألسنتهم وألوانهم وعلي إختلاف مذاهبهم وبلدانهم يتعلقون بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويضفون بروداً من الإجلال وحلل من العظام وهم أهل لكل ذلك لما أختصهم الله به من قرابة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد أحسن من قال :
يا آل بيت رسول الله بيت رسول حبكم ** فرض من الله في القرآن أنزله يكفيكمو من عظيم الفخر أنكم ** من يصلى عليكم لا صلاة له
يشير هذا القائل إلى الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد التشهد الأخير من الصلاة وهو واجبة عند الإمامين الشافعي وأحمد رضي الله عنهم . وينسب الإمام الشافعي قوله :
إن كان رفضا حب آل محمد ** فليشهد الثقلين أني رافض
جعلنا الله من المؤمنين بكتاب الله المستمسكين بسنة رسول الله المحبين لآل بيته المطهرين آمين أما بعد:
فهذه سيرة مختصرة للعارف بالله العظيم المنتمي إلى جده المصطفى الكريم بنسبه الطاهر وخلقه الباهر وارث مقام جده ختم أهل العرفان مجدد طريقه وحافظ عقيدته مولانا السيد علي الميرغني رضي الله عنه نقرأها إلتماساً للبركة وتذكرة تحيى بها القلوب ، وقياماً بالواجب المطلوب وليس القصد من هذه السيرة المختصرة إحصاء نفحاته وإستقصاء كراماته فذلك ما لا يستطيعه كاتب ولا يحصيه كتاب ، لأنه رضي الله عنه وأرضاه ذلك القطب الجامع الذي لا يدرك شأوه ولا يبلغ مداه .
يا رب أنعم بقرب منك متصل علي كريم السجايا الميرغني علي
وها نحن أولا نستهل القول متبركين بذكر نسبه الشريف ، فنقول هو السيد علي الميرغني بن السيد محمد عثمان الميرغني الأقرب المولود بدار والده بجوار قبة جده لأمه الولي المعروف الشيخ خوجلي بالخرطوم بحري إبن القطب الغوث الكامل صاحب الكرامات ومنبع الفيوضات السيد محمد الحسن الميرغني - المولود بمدينة بارا بكردفان المدفون في ضريحه الطاهر بمدينة كسلا إبن السيد محمد عثمان الميرغني خاتم الأولياء وسليل الأصفياء مؤسس الطريقة الختمية بن السيد محمد أبي بكر بن السيد عبد الله الميرغني المحجوب مفتى الحرمين الشريفين – و أحد أعلام الإسلام لقد كتب سيرته ثقات المؤرخين من أمثال المؤرخ الجبرتي الذي نقل ما يدل علي سعة علمه ورسوخ قدمه في مجالات الهداية وميادين الولاية عن تلميذه العلامة الشهير السيد مرتضى الزبيدي شارح القاموس - إبن السيد إبراهيم بن السيد حسن بن السيد محمد أمين بن السيد علي ميرغني - ومنهم بدأ لقبهم بإسم الميرغني - بن السيد حسن بن السيد ميرخورد بن السيد ميرخورد بن السيد حيدر بن السيد حسن بن السيد عبد الله بن السيد علي بن السيد حسن بن السيد حيدر بن السيد ميرخورد بن السيد حسن بن السيد أحمد بن السيد علي بن السيد إبراهيم بن السيد يحيى بن السيد حسن بن السيد أبي بكر بن السيد علي بن السيد محمد بن السيد إسماعيل بن السيد ميرخورد البخاري بن السيد عمر بن السيد علي بن السيد عثمان بن الإمام علي التقى بن الإمام حسن الخالص بن الإمام علي الهادي بن الإمام محمد الجواد بن الإمام علي الرضا بن الإمام موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر بن الإمام علي زين العابدين بن الإمام الحسين بن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي الله عنه وعن بنيه أجمعين ، وهو أيضاً إبن سيدة نساء العالمين وبضعة خير البرية السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها وأرضاها .
يا رب أنعم بقرب منك متصل علي كريم السجايا الميرغني علي
ولد رضي الله عنه بجزيرة مساوي بدار الشايقية وكان مولده في شهر ربيع المعظم عام ألف ومائتين وسبعة وتسعين من الهجرة الموافق ثمانين وثمانمائة وألف من الميلاد وكانت لمولده فرحة عمت البلاد بأسرها ، فقد سبقت مولده إرهاصات مباركة وإشارات محببة فقد كان المحبون والمريدون يتطلعون إليها قبل مولده ، وفيما تلقى والده من بشائر قدومه ليقيم على ما أسسوا ويشيد إلى ما شيدوا من دعائم الدين المنيعة ومنارات الهدى الرفيعة . وقد أنشأ الشعراء في الترحيب بمولده المدائح بجميع اللهجات مهنئين به أنفسهم مقدمين فرحتهم إلى والده السيد العظيم الذي أقام عدة سنوات بدار الشايقية يؤسس المساجد ويعمر خلاوى القرآن وينشئ الزوايا ويبنى معاهد العلم ، حبيباً الى نفوس مريديه ومحبيه الذين أحلوه سويداء قلوبهم وأنزلوه حبات عيونهم لما تحلى به من سماحة الخلق ورجاحة العقل ورقة الأسلوب في إرشاد السالكين والقيام بكل ما يصلح به حال المريدين في الدنيا وتتم به سعادتهم في الآخرة ، وكان هذا دأبه فيما يقدمه للناس وما يلقاهم به في كل مكان حل فيه من البلاد . وكان مولد السيد علي الميرغني رضي الله عنه وسط هذه الهالة من المحبة والولاء وبين هذه المشاهد من المودة والصفاء فما أكرمه من والد نضر الله وجهه بالمحبة والإخلاص وما أعظمه من مولد طابت مآثره وعظمت مفاخره .
يا رب أنعم بقرب منك متصل علي كريم السجايا الميرغني علي
وأنتقل به والده رضوان الله عليهما من دار الشايقية إلى جزيرة أرتولي موطن أمه البرة التقية سليلة بيت الزعامة في قبيلة الإنقرياب المعروفة بالسودان ، ثم أنتقل به من جزيرة أرتولي موطن أخواله إلى مدينة كسلا ، وبعدها إصطحبه إلى سواكن عن طريق ميناء مصوع ، وتوفى والده السيد محمد عثمان الميرغني الأقرب بمصر سنة ألف وثلاثمائة وثلاثة من الهجرة ، فعمت الأحزان القطر السوداني والعالم الإسلامي لما كان له من الآثار الظاهرة والأعمال الباهرة بين أبناء أمته السودانية ، ولما له من المكانة الرفيعة في نفوس المسلمين في جميع الأقطار الإسلامية ، وبدأت نشأة مولانا السيد علي الميرغني رضي الله عنه في مدينة سواكن التي كانت من أكبر مدن القطر السوداني وإحدى منارات العلم وأخذ في تلقي مبادئ المعرفة بمسجد "الأنوار" الذي أسسه جده السيد محمد عثمان الميرغني الختم وبإشراف عمه الولي العارف السيد محمد عثمان تاج السر الميرغني وعلى أيدي العلماء الأجلاء والفقهاء المتمكنين من حمل القرآن الكريم وعلماء الشريعة واللغة ، فحفظ رضي الله عنه القرآن الكريم بالضبط والتجويد والأداء الصحيح وألم بفقه الشريعة ومبادئ اللغة . وكان رضي الله عنه في هذه المرحلة حافظاً لما يلقى عليه عظيم الإجتهاد لا يرفع طرفه عن كتابه ولا ينصرف عن درسه إلا للعبادة أو التأمل ، وتوفيت أمه بمدينة سواكن وعمره تسع سنوات ، وسافر مع عمه السيد محمد سر الختم الميرغني إلي مصر عن طريق السويس ، وفي مصر واصل تعليمه علي أيدي الأقطاب من علماء ذلك الزمان من مشايخ الأزهر الشريف المحققين فأستوعب فقه الشريعة ودقائق اللغة بإشراف حكيم وتوجيه سديد من عمه السيد محمد سر الختم الميرغني الذي كان عالماً من علماء العصر وحجة في جميع علوم الدين واللغة وأنواع المعارف واسع الإطلاع بهرت نفائس شعره النبوي والصوفي العقول وحركت أشجان القلوب ، فأختص بهذه المواهب وشمل بهذه البركات ابن أخيه السيد علي الميرغني الذي بهر العلماء وهو المتعلم وأدهش الأستاذة وهو تلميذ لم تتجاوز سنة العاشرة بما حباه الله من الفطانة النبوية والنجابة الميرغنية . وسافر مع عمه السيد محمد سر الختم الميرغني إلي الأقطار الحجازية وعادا بعد أداء فريضة الحج والقيام بمناسكه الكريمة إلى مصر يحفهما رضوان الله وترعاهما عناياته .
يا رب أنعم بقرب منك متصل علي كريم السجايا الميرغني علي
وعاد رضي الله عنه من مصر إلى سواكن حيث توجد مساجد آبائه وأجداده وزواياهم ومعاهد إرشادهم والبقية الصالحة من خلفاء جده الأستاذ الختم ، وكانوا من خيرة علماء السودان وفقهائه ومشاهير صالحيه والطليعة المؤمنة من أبناء الطريقة الختمية ، وأتجه من سواكن إلى مدينة كسلا ورافقه إليها الذين كانوا بها من كبار خلفاء الأستاذ الختم والذين ذهبوا لإستقباله في سواكن من زعماء العشائر ومشاهير قادتها وأهل الرأي والمكانة , وإلتأم به في كسلا شمل الرهط النبوي وأنتظم به عقد البيت الميرغني فأقام إلي جوار جامع جده السيد محمد الحسن الميرغني رضي الله عنه وجاء إليه من أم درمان بعد فتحها شقيقه السيد أحمد الميرغني وأبن عمه السيد جعفر رضوان الله عليهما . وأخذ رضي الله عنه مع من كان معه من السادة المراغنة يشيد أركان الطريقة ويقيم دعائمها إلي أن غادر كسلا متوجهاً إلى الخرطوم عن طريق بادية البطانة التي خرج أهلها جميعهم لإستقباله وكان موكبه مؤلفاً من تلاميذ الأب وخلفاء الجد من أهل العلم والرأي ومن المشهود لهم بالصلاح المعروفين بتقوى الله ومراعاة حرماته . و وصل الخرطوم ليراها لأول مرة عام ألف وثلاثمائة وسبعة عشر من الهجرة نهاية ألف وتسعمائة من الميلاد فأستقبلته العاصمة إستقبالا لم ير الناس مثيله في تاريخ مدينتهم . أحتشد له فيها جميع السكان من المدينة والضاحية يتقدمه رجال الدين وعلماؤه وأصحاب المكانات الإجتماعية شيباً وشباباً رجالاً ونساءاً وتجلت في هذا الإستقبال شواهد من رسالة الطريقة الختمية ومن آثارها الطيبة التي رسخت في قلوب مريديها والتي غرسها جهاد آبائه وأجداده وغذاها بالإرشاد الحكيم والقيادة المخلصة والهداية القائمة على الصدق والتجرد وعلى كتاب الله وسنة رسوله فجمع العناصر المختلفة و وحد القلوب المتنافرة ، ومحى من النفوس عصبية القبيلة ونعرة الجهوية ، وأصبح المريدون صفاً واحداً أخواناً متحابين في الله بمقتضى منوال الطريقة تحت رعاية الإسلام .
يا رب أنعم بقرب منك متصل علي كريم السجايا الميرغني علي
وأقام رضي الله عنه في منزل جده السيد محمد الحسن الميرغني بجوار قبة الشيخ خوجلي بالخرطوم بحري ، وهو المنزل الذي ولد فيه والده السيد محمد عثمان الأقرب كما فتحت جميع الدور التي أقام بها وفتحت للمحبين والمريدين والوافدين أبوابها هي ومنازل والده السيد محمد عثمان الميرغني الأقرب رضوان الله عليه . وِأخذ رضي الله عنه بعد أن أستقر به المقام في نشر الطريقة الختمية وحفلت مجالسه العامرة بالعلماء أهل الرأي ورجال الدين الذين عقدوا علي قيادته الإسلامية الآمال وتطلعوا إلى مقامه الأكبر ومنهجه القويم وإلى مريديه الذين هم الكثرة الراشدة والطلائع الواعية وتطلعوا إلى بركات الأصل ونفحات الفرع لتعويض هذه الأمة عما فاتها وتحقيق آمالها وخلاصها من حكم المستعمر الدخيل الذي لا تقر الشريعة الإسلامية السكوت عليه أو التمكين له في أرض المسلمين يقيم عليها سلطانه ويسيطر عليها بجبروته وقوته .
يا رب أنعم بقرب منك متصل علي كريم السجايا الميرغني علي
وأخذ رضي الله عنه يحث المريدين على بناء المساجد والزوايا وتطبيق منوال الطريقة الختمية في تكوين المجتمعات والحضرات والروابط والإتحادات ومنظمات الشباب ، فقام هذا التنظيم الديني في كل قرية بالقطر السوداني وفي كل مدينة فيه بل في كل حي من أحيائه إلى جانب إقامة الشعائر الدينية في جميع هذه المجتمعات متفرقة في أماكنها أو مجتمعة في مكان واحد ، تملأ السهل ويفيض بها الرحب تنشر الطمأنينة والسلام والمحبة وهي ترفع ألويتها وتردد أناشيدها تفرح المؤمنين وتغيظ الكافرين . فعادت طلائع الختمية الواعية بقيادة مرشدها العظيم الأمن والثقة للنفوس وأشادت بناء ما أنهدم من المساجد والمعاهد وأحيت نار القرآن الكريم وأعادت العلماء والفقهاء هيبتهم لمواصلة ما كانوا فيه من نشر العلم وتنوير العقول والإتجاه بأمتنا المسلمة نحو هداها ورشادها ومستقبلها . وعندما أذن الله لدعوة الحق أن تنطلق ولراية الجهاد أن ترفع ، كانت قيادته رضي الله عنه وكانت منظمات الختمية الحصن الذي ترعرعت فيه الدعوة والمعقل الذي أرتفعت فوقه الراية وبلغت بهم سفينة البلاد شاطئ أمنها بقيادة ربانها الساهر وأستاذها الماهر فلم تضطرب رغم أمواج الأحداث العالية أو تنحرف رغم صخور الطغيان العاتية لأنها سفينة الحق سفينة الختم بإسم الله مجراها ومرساها .
يا رب أنعم بقرب منك متصل علي كريم السجايا الميرغني علي
كان رضي الله عنه عند العلماء العالم النادر وعند الفقهاء البحر الزاخر وعند كل من سعد بمجلسه وأستمع لحديثه الحجة القاطعة والقدوة الكاملة ، وكان مما أكرمه الله تعالى به المعرفة التامة والإحاطة الشاملة فتحاً إلهياً وإلهاماً سماوياً ، وكرامة منه تعالى لميراثه النبوي ومجده الميرغني فقد بهر رضي الله عنه أولئك الذين كانوا يسعون إلى لقائه عند زيارتهم للسودان من بلاد العالم المختلفة من مشاهير علمائها في العلوم الشرعية وفي علوم الإجتماع والإقتصاد وفي الطب والفلك والتاريخ وفي كل ما أبدع عقل الإنسان من المعارف وأكتشف من حقائق الكون وأسراره فيجدون لديه من أخبار ما أكتشفوا وأسرار ما حققوا ما لم يخطر على بالهم أن يجدوه في مكان غير معاهدهم ومعالمهم ، فكانوا يصفونه في رسائلهم بعد أن يعودوا إلى أقطارهم أو في حديثهم عنه بأنه أحد علماء القرن وأساتذة العالم . وكان رضي الله عنه يستقبل الزائرين والوافدين من أقطار الدنيا المختلفة فيحدثهم عن أوطانهم منذ بداية تكوينها وعناصر عمرانها وتفاصيل حياة أهلها وما عندهم من طباع وعادات وحضارات وكأنما هي ماثلة أمامه وهو الذي لم يسافر إلى هذه الأقطار وكان بعضهم يسأل متى عاد من بلادهم وكيف عرف من أحوالها ما لم يعرفوا واطلع على ما لم يطلعوا عليه من آثارها وتأخذهم الدهشة عندما يجيب بأنه لم يزرها .
يا رب أنعم بقرب منك متصل علي كريم السجايا الميرغني علي
ومما أكرمه الله تعالى به الإستقامة التامة على قدم صاحب المعجزات ظاهراً وباطناً والاستمساك بنهجه النبوي وما أبقى له سلفه الصالح دون تفريط لرغبة أو تهاون لرهبة ، فلقد عرض عليه الحاكمون الملك فرفضه لمعايرته لنهجه الصحيح ومخالفته لرأيه الصريح، ولأنه رضي الله عنه صاحب رسالة سامية ينهض بأعبائها الهداة لا الطغاة ، ويحققها الدين لا الملك ، ولأن الأمة عنده لم تكن بحاجة إلى تاج يفرضه عليها الحاكم الأجنبي ، وإنما هي بحاجة إلى القائد المنقذ الذي يقودها إلى ما فيه خيرها وصلاحها وينأى بها عن مزالق التهلكة ، وقلّ ما سمعت الآذان قبله من رفض الملك ، واستهان بالتاج إرضاء لدينه ووفاء لأمته فما أعظمها من كرامة وما أكرمها من قيادة . وكانت كرامته التي لا تبارى ومأثرته التي لا تجارى تجديد طريقة جده ختم أهل العارفين التي بلغت بجهاده وإرشاده ذروة إنتشارها وحفظت تراث الإسلام في مساجدها وزواياها المنتشرة في البلاد بالهداية والإرشاد والتي تجدها في كل حي من أحياء مدن السودان وفي كل قرية من قراه وبادية من بواديه من بواديه ، وكانت تلك الزوايا والمساجد بتوجيهه وإرشاده وكانت المصادر الطيبة لإعداد أبناء الشعب السوداني إعداداً صحيحاً للقيام بواجب التبصير والتنوير والوقوف ضد كل عمل يؤخر خلاص هذه الأمة رزحت تحت أثقاله .
يا رب أنعم بقرب منك متصل علي كريم السجايا الميرغني
ومما أكرمه الله تعالى به وصيته لأبناء أمة قبل أن يترك دنياه الفانية إلى جوار ربه والتي أشتملت علي مبادئه منذ البداية ومواقفه الشهيرة وجهاده النبيل المزدان بجسام التضحيات بأن يطبقوا حكم الإسلام وقيام الجمهورية الإسلامية الديمقراطية التي يكون الإحتكام في ظلها والحكم في جميع شؤون أهلها من كتاب الله الكريم وسنة رسوله العظيم صلى الله عليه وسلم . وفيما أكرمه الله به تحقيق أمته العظيمة ورغبته الكريمة في توحيد صف أبنائه وتلاميذه الذي رعى دعوتهم وبارك جهودهم وكان قدوتهم الطيبة في البذل والجهاد وفي التضحية والوفاء ليواجهوا مستقبل هذه الأمة صفاً واحد مؤمناً متماسكاً وأن يعملوا إقتداء به ووفاء علي توحيد كلمة الأمة لأن ذلك سبيلها الوحيد إلي إعلاء الشأن وتحقيق الخير فلقي ربه غرير العين بجمع الشمل ورأب الصدع وعند الله جزاءه الكريم وثوابه العظيم . ومما أكرمه الله تعالي به الثبات المكين علي ما أخذ به نفسه الكريمة وموافقته الكبيرة من مبادئ الحق والحرية بالمحافظة على الإسلام والعروبة في السودان فظل القائد الراعي لكل إتجاه صحيح نحو البلاد الإسلامية والأقطار العربية برقم الصعاب التي أعترضت هذا النهج والقوة الغاشمة التي تصدت لهذا الإتجاه وكانت الصلة بمصر أقرب بلاد العرب والمسلمين للسودان وألصقها به وأكثرها تفاعلاً معه في جميع أسباب حياتهما المشتركة على شاطئ النيل ومجراه تجد عنده رضوان الله عليه الحماية الكاملة والرعاية التامة والصمود الرادع لكل محاولة بذلها الأعداء لقطع الوشيجة وفصم الصلة الدائمة بإذن الله . هذا وقد أكرمه الله تعالى بكثير من الكرامات أخذنا بعض منها في هذه السيرة تبركاً دون أن نخرج علي ما أخذ به نفسه في حياته من التواضع لله ورد كل أمر إلى حول الله تعالى وقوته ، وقد أكرمه الله تعالى بالكرامات الظاهرة والفتوحات الباهرة فكانت عنده سراً من أسرار القادر الفعال لما يريد سبيلاً إلى المباهاة أو وسيلة للمضاهاة ، وإنما كانت عنده رضي الله عنه مدداً من عند الله يقابل بحمد والإعتراف بفضله .
يا رب انعم بقرب منك متصل علي كريم السجايا الميرغني علي
كل هذا الذي تقدم فضل الله يؤته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ، هذا الفيض الإلهي والفتح الرباني يسميه أهل العقيدة كرامة وفتحاً ويدعوه غيرهم نبوغاً وعبقرية وهو في كل حالاته فضل من الله ونعمته ونور منه تعالى ورحمته ينير به بصائر من يصطفيهم من خواص عباده حتى يضئ الطريق أمام المتخبطين وبأخذ بيد الحائرين ، وما لنا نستبعد ما أختص الله به من أجتباهم وأختارهم من خلص عباده ونحن لا نتشكك في هبات الله لذو العقول الكبيرة ممن توصل إلي تلك الكشوف العلمية المدهشة و الإختراعات التي وصل بها الإنسان إلي القمر وغاص في الماء ورأي صورة من يخاطبه عبر القارات وسمع صوت محدثه من وراء المحيطات على أن الكرامة ليست أمراً مخلوقاً للولي وإنما هي أمر يخلقه الله تعالى إكراماً لعبد من عبيده ممن أتاهم الحكمة وعلمهم من لدنه علماً ، "ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا أولى الألباب" ، وإذا كانت الكرامة أمراً مخلوقاً لله فلا مجال للعقل أن ينكره إلا إذا أنكر على الخالق الذي لا يعجزه شئ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، على أن العلماء من أهل السنة والجماعة مجمعون على وقوع الكرامة لأنها قد جاء بها الكتاب الكريم والسنة الشريفة وحسبك ما قصد الله تعالى من أمر سيدنا الخضر مع موسى عليه السلام في سورة الكهف وما حكاه جل قدره عن وزير سليمان في سورة النمل من شأن عرش بلقيس وهو قوله تعالى : " أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك" . وما قصد الله سبحانه وتعالى عن الصديقة مريم أم عيسى من قوله : "كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب " ، وما رواه البخاري في صحيحه من الحديث القدسي وهو قوله عليه الصلاة والسلام : "ما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه " ، وفي حديث صحيح أن عمر رضي الله عنه وهو يخطب المسلمين بالمدينة المنورة يوم الجمعة أثناء خطبته قال : " يا سارية الجبل " ، فسمعه سارية وهو بنهاوند من أرض فارس فنجا من كمين كان العدو قد أعده له .
يا رب أنعم بقرب منك متصل علي كريم السجايا الميرغني علي
كان رضي الله عنه وهو الذي أخضعت رهبته الملوك وألجمت هيبته ألسنة الطغاة والمسيطرين وبهرت حكمته أكابر العلماء والمفكرين كأنما عناه شاعر جده الإمام زين العابدين بقوله : " فما يخاطب إلا حين يبتسم " ، كان يرق لمريديه ويلين لقاصديه يتعرف على الصغير والكبير من أحوالهم يسأل الحاضر عن الغائب ويدني الفقراء والمساكين من مجلسه ، ويجيب السائل ويغيث اللهيف ويرحم الضعيف ويبسم للقادم ويجلس للقاء المريدين والمحبين كل يومه مهما طال الجلوس وعظم الحشد ، يصاحب الكتاب في خلوته ويذكر الله كل وقته تهتز أعطافه لسيرة جده صلى الله عليه وسلم وأخبار أهل الصلاح والولاية كان ملكاً على عرش القلوب عند أبناء أمته وكان زاهداً متواضعاً في مسكنه وفي حياته الخاصة وبين تلاميذه ومريديه وشجاع في رد الظلمات عن المظلومين وإستخلاص الحق من الظالمين وشغوفاً عطوفاً على أهل المسكنة والمساكين أسوته في هذا جده المصطفى صلى الله عليه وسلم ونظره في ذلك إلى ربه الذي لحق به راضياً مرضياً .
يا رب أنعم بقرب منك متصل علي كريم السجايا الميرغني علي
ولما أختاره الله تعالى لقربه وجواره في يوم الأربعاء الثالث والعشرون من ذي القعدة عام ألف وثلاثمائة وسبعة وثمانين للهجرة 1387 هـ الموافق للحادي والعشرين من فبراير عام 1968 م ألف وتسعمائة وثمانية وستين ، كان ذلك اليوم يوم الهول العظيم والخطب الجسيم فما أذيع نعيه للدنيا وأعلن رحيله لسكان المعمورة حتى أصبح العالم الإسلامي في فقده وطناً وقلباً واحداً يخفق باللوعة ، وصوتاً واحد يرتفع بالعويل و يجهش بالبكاء ، وعرف أبناء أمته في ذلك اليوم معنى شدة الهول وفخامة الفاجعة فبكى من الرجال أشدهم ثباتاً وأضطرب من القوم أعظمهم تماسكاً وعادت البلاد كلها زلزال راجفاً ، وهرعت الجموع من كل طريق رجالاً ونساء شيباً وشباباً ساعة سماعهم لنعيه من أقاصي البلاد نحو الخرطوم ذهلت المرضعة عن رضيعها وترك كل ذي عمل عمله ، وجاءواً إلي الخرطوم أفواجاً بمختلف وسائل السفر والإرتحال يغسل الدمع عن وجوههم الغبار وتصهر الشمس فوق رؤوسهم التراب . أما في الخرطوم وأم درمان والخرطوم بحري والقرى المحيطة بهذه المدن فقد كانت جميعها داراً واحدة ثكلت وحيدها وفقدت عميدها قبل أن يجئ المساء الأول لوفاته رضي الله عنه كانت الأمة كلها نشيجاً ودموعاً لا شيء في العيون إلا الدمع والسهر وقضت نهار اليوم التالي كما يقضيه الثاكل على المكروب ولقد عجز أولئك الذين اشتركوا في ذلك المشهد الرهيب والموكب الضخم العظيم الذي شيع الجسمان الطاهر إلي مقره الأخير عجزوا أن يحصوا ذلك الحشد عداً أو يقدروه فرضاً فما أستطاعوا إلى شي من ذلك سبيلاً ، إذا كان فوق ما تصور الإنسان ويتخيل فقد كاد ينتظم السودان جميعه فقد سالت الطرقات بالمشيعين وفاضت بهم السبل وضاقت عليهم العاصمة المثلثة بما رحبت وحسبك أن تتصور موكباً بلغ أوله الخرطوم بحري بينما كان وسطه في أم درمان وآخره في الخرطوم ،حيث بدأت المسيرة من سرايا سيادته رضي الله عنه آخذة طريقها إلى جسر النيل الأبيض فجسر شمبات ثم أتخذت نحو القبلة حيث ضريحه الطاهر في الخرطوم بحري فكأنما أراد الله له أن يودع العاصمة المثلثة جميعها .
يا رب أنعم بقرب منك متصل علي كريم السجايا الميرغني علي
فيا لهول ذلك اليوم الذي ما كان إلي إحتماله من سبيل لولا إن نهض بين هذه المئات من الألوف المؤلفة وفي هذا المشهد الممتد في العاصمة المثلثة من أقصاها إلى أقصاها وارث بركاته ورافع لوائه تلميذه الأول خلفيته المرتضى مولانا السيد محمد عثمان الميرغني يكسوه جلال الوصية وتحيط به روعة الخلافة يكفكف الدمع ويخفف لواعج الحزن ويصلي عليه إماماً وينزل في قبره بشآبيب الرحمة وأنوار الرضوان أمد الله في عمره ، وأمده بما يجعله إمتداداً لذلك الفيض وإزدياداً من تلك النفحات وقد أكرم الله تعالى المحبين والمريدين والمواطنين وأعانهم على قبول قضاء الله تعالى وإختياره أنه رضي الله عنه ترك فينا بعده فيما من ترك من البركات إبنه وخليفته مولانا السيد محمد عثمان الميرغني وشقيقه السيد أحمد الميرغني كاملين بأمل الإرث وأدب الدرس .
يا رب أنعم بقرب منك متصل علي كريم السجايا الميرغني علي
هذا ولنرفع أكف الإبتهال والضراعة إلى رب البرية ونحمده تعالى حمداً يليق بعظمته ويكافئ نعمته ونصلي ونسلم على سيد المرسلين وإمام المتقين سيدنا محمد وآله سفن النجاة وأصحابه التقاة الهداة . ونسألك اللهم أن تنزل على ضريح صاحب هذه الذكرى التي أقمناها إيماناً بك وتقرباً إلى نبيك بحب آل بيته وافر الرحمات وأوفى البركات منعماً بجوارك متمتعاً بقربه منك وثوابه لديك فقد كان فينا قائماً بحق ناصر لدينك موالياً لأولوياتك معادياً لأعدائك , ونسألك اللهم أن تعقد اليمن بلواء القائم فينا بالأمر من بعده بشيخنا ومرشدنا مولانا السيد محمد عثمان الميرغني وأن تجعله بفضلك الواسع وتوفيقك الجامع إماماً للمتقين وسنداً للمسلمين وكنفاً للائذين وهادياً للمريدين ، اللهم أشدد أزره وبارك سعيه وأحفظ له الأهل والولد ونسألك اللهم أن تتولى برعايتك السادة المراغنة آل بيت نبيك وبضعة نوره وأجعلهم دعاة للخير هداة للناس وأصلح بهم العباد والبلاد ، ونسألك اللهم أن تكون عوناً وسنداً للأمة السودانية في توحيد جهود أبناءها وصلاح نورها وإعلاء شأنها بالإسلام ، وأجعل به قوام أمرها وصلاح حالها ونجاح سعيها ونسألك الله للمسلمين في كافة أقطارهم قوة توحد صفهم وتجمع شملهم ويستعدون بها مجد الإسلام حتى يعم بنوره الأرض ويصلح بكتابه البشر ونسألك اللهم لأمتنا العربية نصراً على أعداءها وأن لا يكون في جميع أقطارها مغلوب علي أمره مستعبد في دياره حتى تصدق في أرجاءها كلمتك فتكون خير أمة أخرجت للناس والحمد لله رب العالمين .
| |
|